فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنا بينا أن مدار أمر القرآن على تقدير هذه المسائل الأربع، وهي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر، ولا شك أن مدار إثبات المعاد على إثبات التوحيد والقدرة والعلم، فلما بالغ الله تعالى في تقرير أمر المعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد، وكمال القدرة، والعلم، لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التوحيد، ومقررة أيضًا لإثبات المعاد وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
حكى الواحدي عن الليث أنه قال: الأصل في الست والستة سدس وسدسة أبدل السين تاء، ولما كان مخرج الدال والتاء قريبًا أدغم أحدهما في الآخر واكتفى بالتاء، عليه أنك تقول في تصغير ستة سديسة، وكذلك الأسداس وجميع تصرفاته يدل عليه. والله أعلم.
المسألة الثانية:
{الخلق} التقدير على ما قررناه فخلق السموات والأرض إشارة إلى تقدير حالة من أحوالهما، وذلك التقدير يحتمل وجوهًا كثيرة: أولها: تقدير ذواتهما بمقدار معين مع أن العقل يقضي بأن الأزيد منه والأنقص منه جائز، فاختصاص كل واحد منهما بمقداره المعين لابد وأن يكون بتخصيص مخصص، وذلك يدل على افتقار خلق السموات والأرض إلى الفاعل المختار.
وثانيها: أن كون هذه الأجسام متحركة في الأزل محال، لأن الحركة انتقال من حال إلى حال، فالحركة يجب كونها مسبوقة بحالة أخرى، والأزل ينافي المسبوقية فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالًا.
إذا ثبت هذا فنقول: هذه الأفلاك والكواكب إما أن يقال: أن ذواتها كانت معدومة في الأزل ثم وجدت، أو يقال: إنها وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة ساكنة في الأزل، ثم ابتدأت بالحركة، وعلى التقديرين فتلك الحركات ابتدأت بالحدوث والوجود في وقت معين مع جواز حصولها قبل ذلك الوقت وبعده، وإذا كان كذلك كان اختصاص ابتداء تلك الحركات بتلك الأوقات المعينة تقديرًا وخلقًا، ولا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر ومختار.
وثالثها: أن أجرام الأفلاك والكواكب والعناصر مركبة من أجزاء صغيرة، ولابد وأن يقال: إن بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام وبعضها حصلت على سطوحها فاختصاص حصول كل واحدة من تلك الأجزاء بحيزه المعين ووضعه المعين لابد وأن يكون لتخصيص المخصص القادر المختار.
ورابعها: أن بعض الأفلاك أعلى من بعض، وبعض الكواكب حصل في المنطقة وبعضها في القطبين، فاختصاص كل واحد منهما بموضعه المعين لابد وأن يكون لتخصيص مخصص قادر مختار.
وخامسها: أن كل واحد من الأفلاك متحرك إلى جهة مخصوصة، وحركة مختصة بمقدار معين مخصوص من البطء والسرعة، وذلك أيضًا خلق وتقدير ويدل على وجود المخصص القادر.
وسادسها: أن كل واحد من الكواكب مختص بلون مخصوص مثل كمودة زحل، ودرية المشتري، وحمرة المريخ، وضياء الشمس، وإشراق الزهرة، وصفرة عطارد، وزهور القمر، والأجسام متماثلة في تمام الماهية فكان اختصاص كل واحد منها بلونه المعين خلقًا وتقديرًا ودليلًا على افتقارها إلى الفاعل المختار.
وسابعها: أن الأفلاك والعناصر مركبة من الأجزاء الصغيرة، وواجب الوجود لا يكون أكثر من واحد فهي ممكنة الوجود في ذواتها، فكل ما كان ممكنًا لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، والحاجة إلى المؤثر لا تكون في حال البقاء، وإلا لزم تكون الكائن فتلك الحاجة لا تحصل إلا في زمان الحدوث، أو في زمان العدم وعلى التقديرين فيلزم كون هذه الأجزاء محدثة ومتى كانت محدثة كان حدوثها مختصًا بوقت معين وذلك خلق وتقدير ويدل على الحاجة إلى الصانع القادر المختار.
وثامنها: أن هذه الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان، وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث، فهذه الأجسام محدثة، وكل محدث فقد حصل حدوثه في وقت معين، وذلك خلق وتقدير ولابد له من الصانع القادر المختار.
وتاسعها: أن الأجسام متماثلة فاختصاص بعضها بالصفات التي لأجلها كانت سموات وكواكب، والبعض الآخر بالصفات التي لأجلها كانت أرضًا أو ماء أو هواء أو نارًا لابد وأن يكون أمرًا جائزًا، وذلك لا يحصل إلا بتقدير مقدر وتخصيص مخصص وهو المطلوب.
وعاشرها: أنه كما حصل الامتياز المذكور بين الأفلاك والعناصر فقد حصل أيضًا مثل هذا الامتياز بين الكواكب وبين الأفلاك وبين العناصر، بل حصل مثل هذا الامتياز بين كل واحد من الكواكب، وذلك يدل على الافتقار إلى الفاعل القادر المختار.
واعلم أن الخلق عبارة عن التقدير، فإذا دللنا على أن الأجسام متماثلة وجب القطع بأن كل صفة حصلت لجسم معين، فإن حصول تلك الصفة ممكن لسائر الأجسام، وإذا كان الأمر كذلك كان اختصاص ذلك الجسم المعين بتلك الصفة المعينة خلقًا وتقديرًا فكان داخلًا تحت قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض}، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
لسائل أن يسأل فيقول: كون هذه الأشياء مخلوقة في ستة أيام لا يمكن جعله دليلًا على إثبات الصانع؟ وبيانه من وجوه: الأول: أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصانع هو حدوثها أو إمكانها أو مجموعهما فأما وقوع ذلك الحدوث في ستة أيام أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتة.
والثاني: أن العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستة أيام إلا بأخبار مخبر صادق، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار، فلو جعلنا هذه المقدمة مقدمة في إثبات الصانع لزم الدور.
والثالث: أن حدوث السموات والأرض دفعة واحدة أدل على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيام.
إذا ثبت ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فنقول: ما الفائدة في ذكر أنه تعالى إنما خلقها في ستة أيام في إثبات ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ والرابع: أنه ما السبب في أنه اقتصر هاهنا على ذكر السموات والأرض، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟
السؤال الخامس: اليوم إنما يمتاز عن الليلة بسبب طلوع الشمس وغروبها فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام؟
والسؤال السادس: أنه تعالى قال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ البصر} [القمر: 50] وهذا كالمناقض لقوله: {خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
والسؤال السابع: أنه تعالى خلق السموات والأرض في مدة متراخية، فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة؟ فنقول: أما على مذهبنا فالأمر في الكل سهل واضح، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه.
ثم نقول:
أما السؤال الأول: فجوابه أنه سبحانه ذكر في أول التوراة أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، والعرب كانوا يخالطون اليهود والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتها في ستة أيام.
وأما السؤال الثالث: فجوابه أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادرًا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدًا محدودًا ووقتًا مقدرًا، فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو وإن كان قادرًا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال، وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال، إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر، فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته فلا يفتر عنه، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [ق: 38، 39] بعد أن قال قبل هذا: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ في البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ في ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 36، 37] فأخبرهم بأنه قد أهلك من المشركين به والمكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشًا من مشركي العرب، إلا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة، كما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال، ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلًا قليلًا قال بعده: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه، وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل.
ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين:
الوجه الأول: أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة، كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم، وقادر عليم رحيم.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أولًا ثم يخلق السموات والأرض بعده، ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي، كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته، لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة، فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين.
وأما السؤال الرابع: فجوابه أن ذكر السموات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضًا على ذكر ما بينهما، والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال: {الله الذي خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ} وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [الفرقان: 58، 59] وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38].
وأما السؤال الخامس: فجوابه أن المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله: {لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل ثم ولا نهار.
وأما السؤال السادس: فجوابه أن قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50] محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها، لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة، وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة.
وأما السؤال السابع: وهو تقدير هذه المدة بستة أيام، فهو غير وارد لأنه تعالى لو أحدثه في مقدار آخر من الزمان لعاد ذلك السؤال، وأيضًا قال بعضهم لعدد السبعة شرف عظيم، وهو مذكور في تقرير أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، وإذا ثبت هذا قالوا: فالأيام الستة في تخليق العالم واليوم السابع في حصول كمال الملك والملكوت وبهذا الطريق حصل الكمال في الأيام السبعة انتهى.
المسألة الرابعة:
في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والارض} والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات، ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات؟ ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم، ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب، وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان، فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل، فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره؟